الحكم الرشيد والمشاركة السياسية
ديسمبر 30, 2013
إذا كان مفهوم “الحكم-Governance” من المفاهيم القديمة التي ترتبط بنشأة السلطة السياسية، فإن مفهوم “الحكم الرشيد-Good Governance” –ويُعرف أيضاً بالحكم الراشد، والحكم الصالح، والحكم الجيد- هو مفهوم حديث ابتدعته المؤسسات الدولية -أواخر القرن الماضي- لتسيير أمور البشر بشكل يؤمن لهم حياة كريمة من النواحي الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
ونتيجة لحداثة مفهوم الحكم الرشيد، فإن تحديد مضمونه وتحليل مفرداته لا يزالان محلاً لخلاف بين المؤسسات المعنية بتعريفه كالبنك الدولي ومؤسسات الأمم المتحدة، والمؤسسات الأكاديمية كالجامعات والمراكز البحثية، والدوريات العلمية والموسوعات العامة.
وخلافاً لذلك، نجد أن مفهوم “المشاركة السياسية-Political Participation” -وتُعرف أيضاً بالمشاركة الجماهيرية، والمشاركة الشعبية، والمشاركة العامة- هو مفهوم قديم أخذ في التطور مع مطلع عصر النهضة في أوروبا، حتى بلغ ذروته أثناء الثورة الصناعية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
وترتيباً على ما تقدم، فإن البحث في ماهية العلاقة بين الحكم الرشيد والمشاركة السياسية يقتضي منا تحديد المقصود بكلا المفهومين في نطاق علاقته بالآخر، ومن ثم تحديد أساس العلاقة بين المفهومين، وأخيراً تحديد طبيعة هذه العلاقة.
مفهوم الحكم الرشيد..
استخدمت مؤسسات الأمم المتحدة مفهوم الحكم الرشيد لإعطاء حكم قيمي على ممارسة السلطة السياسية لإدارة شؤون المجتمع باتجاه تطويري وتنموي وتقدمي. أي أن الحكم الرشيد يكون هو “الحكم الذي تقوم به قيادات سياسية منتخبة، وكوادر إدارية ملتزمة بتطوير موارد المجتمع، وبتقدم المواطنين وبتحسين نوعية حياتهم ورفاهيتهم وذلك برضاهم وعبر مشاركتهم ودعمهم”.
حيث يعرفه البنك الدولي (WB) –وهو أول مؤسسة استخدمت مصطلح الحكم الرشيد في عام 1989م- بأنه “مجموعة القواعد والمؤسسات التي يتم من خلالها ممارسة السلطة في إدارة الموارد الاقتصادية والاجتماعية للدولة من أجل تحقيق المصلحة العامة”.
كما عرفته منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OCED) بأنه “استخدام السلطة السياسية وممارسة السيطرة في المجتمع لإدارة موارده من أجل تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية”.
أما برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) فقد أعطى مفهوم الحكم الرشيد تعريفاً أشمل وأعم يقوم على مفهوم التمكين؛ إذ عرفه بأنه “ممارسة السلطة الإدارية والاقتصادية والسياسية لإدارة كافة شؤون الدولة، وهو ما يشمل الآليات والعمليات والمؤسسات التي يعبر من خلالها المواطنون عن يمكن للأفراد والجماعات من خلالها التعبير عن مصالحهم وخياراتهم والتمتع بحقوقهم القانونية والوفاء بالتزاماتهم وتسوية خلافاتهم”.
ويستفاد من تعريف برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أن إدارة شؤون المجتمع من خلال الحكم الرشيد تتضمن ثلاثة أبعاد متكاملة: أولها البعد المؤسسي (أي الإداري)، ويتعلق بطبيعة الإدارة العامة ومدى فاعليتها وكفاءتها. وثانيها البعد الاقتصادي-الاجتماعي، ويتعلق بطبيعة السياسات العامة في المجالين الاقتصادي والاجتماعي ومدى تأثيرها في حياة المواطنين وتحويل النمو الاقتصادي إلى تنمية بشرية مستدامة، كما يعنى بطبيعة بنية المجتمع المدني وحيويته واستقلاليته في مواجهة مؤسسات الدولة، وتفعيل دوره في تعبئة الأفراد والجماعات للمشاركة في الأنشطة السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وثالثها البعد السياسي-التمثيلي، ويتعلق بطبيعة السلطة السياسية في الدولة وشرعية تمثيلها، ومدى توافق البيئة السياسية والقانونية مع متطلبات تطوير آليات التنمية السياسية في المجتمع وفي مقدمتها المشاركة السياسية.
مفهوم المشاركة السياسية..
أما مفهوم المشاركة السياسية فإنه يُشير –بوجه عام- إلى تلك الأنشطة الإرادية المشروعة التي يقوم بها أفراد المجتمع -بشكل مباشر أو غير مباشر- بقصد اختيار حكامهم وممثليهم أو المساهمة في صنع القرارات والسياسات العامة.
كما يعرفها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بأنها “الإسهام الفعلي للمواطنين في صنع السياسات واتخاذ القرارات المتعلقة بالصالح العام بطريق مباشر أو عن طريق ممثليهم، والتي تتم من خلال إتاحة الفرصة للمواطنين كي يكون لهم دور فاعل في مقدرات وطنهم عن طريق مجموعة من التدابير السياسية والتشريعية والإدارية”.
ومن ثم فإنه يمكن تعريف المشاركة السياسية –في نطاق علاقتها بالحكم الرشيد- بأنها منح أفراد المجتمع فرصاً متساوية دون تمييز بينهم لاختيار حكامهم وممثليهم وإبداء آرائهم في الشأن العام والمشاركة في صنع القرارات والسياسات العامة بشكل مباشر أو غير مباشر، في ظل بيئة سياسية وقانونية تكفل حرية الرأي والتعبير عنه وحرية الاجتماع وتكوين الجمعيات، وتكرس مبادئ سيادة القانون وقيم المساءلة والشفافية.
العلاقة بين الحكم الرشيد والمشاركة السياسية..