تطور الحياة النيابية في المملكة المغربية-2
ديسمبر 30, 2014

ورد في العدد السابق من هذه النشرة أن الحياة النيابية في المملكة المغربية قد مرت في تطورها بثلاث مراحل متميزة. حيث تم تناول المرحلة الأولى، وهي المرحلة المتعلقة بالفترة التي سبقت فرض الحماية الفرنسية على المملكة المغربية في عام 1912م. وأيضاً المرحلة الثانية، وهي المرحلة المتعلقة بالفترة التي أعقبت فرض الحماية على المملكة المغربية حتى عام 1956م.
وسوف يتم في هذا العدد من النشرة –وفي عددها القادم أيضاً- تناول المرحلة الأخيرة من مراحل تطور الحياة النيابية في المملكة المغربية، وهي المرحلة التي بدأت عقب إعلان استقلال المملكة المغربية عن فرنسا في عام 1956م حتى عام 2011م.
فقد أعقب الإعلان عن استقلال المملكة المغربية عن فرنسا في عام 1956م تأسيس حياة نيابية أخذت في التطور –تدريجياً- حتى أصبحت من بين النماذج البرلمانية التي يحتذى بها في وقتنا الحاضر. وقد شهدت هذه المرحلة من مراحل تطور الحياة النيابية في المملكة المغربية عدة تجارب متميزة، نعرض لها –بإيجاز- على النحو التالي:
أولاً: تجربة المجلس الوطني الاستشاري (1956-1959):
تم تأسيس المجلس الوطني الاستشاري في شهر أغسطس من عام 1956م، والذي يُعد الخطوة الأولى نحو حياة نيابية تمكن الشعب المغربي من المشاركة في تدبير شؤونه العامة من خلال ممثليه في المجلس النيابي في ظل ملكية دستورية وديمقراطية حقيقية.
وقد نشأ هذا المجلس نتيجة للتوافق بين ملك البلاد ومختلف القوى السياسية على أن مرحلة ما بعد الاستقلال هي مرحلة انتقالية تقتضي تحولاً تدريجياً نحو الديمقراطية. وكان هذا المجلس يتكون من (76) عضواً يعينهم الملك لمدة سنتين قابلة للتجديد. وكان الأعضاء يمثلون جميع التيارات السياسية الحزبية والمستقلة، والمنظمات الاقتصادية والاجتماعية، ومختلف الهيئات كالمحامين والأطباء والصيادلة والمهندسين والعلماء والمؤسسات الثقافية وحبر عن رجال الدين اليهودي.
ومن ناحية الصلاحيات التشريعية التي كان يملكها هذا المجلس، فلم تكن للمجلس أية صلاحيات تشريعية، فقد كان مجلساً استشارياً للملك فحسب. حيث كانت تنحصر مهمته في إبداء رأيه في ميزانية الدولة العامة وفي الميزانيات الإضافية، وفي جميع القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي كانت تعرض عليه من قبل الملك.
أما من ناحية صلاحياته الرقابية، فقد كان المجلس يملك سلطة مساءلة أعضاء الحكومة. حيث كان لكل عضو من أعضاء المجلس -أثناء انعقاد الدورة – توجيه أسئلة إلى أي وزير بشأن الأمور التي تدخل في اختصاص وزارته. وقد كان هناك نوعان من الأسئلة: أولهما الأسئلة الشفوية التي توجه إلى الوزراء مباشرة أثناء المناقشات، وثانيهما الأسئلة المكتوبة التي توجه بواسطة رئيس المجلس إلى الوزير المختص، والذي كان يجب عليه أن يجيب عنها –كتابة- خلال مدة أسبوع.
إلا أن هذا المجلس لم يستمر طويلاً في ممارسة المهام التي كانت موكلة إليه، حيث تم حله في شهر مايو من عام 1959م.
ثانياً: التجربة البرلمانية الأولى (1963-1965):
نشأت هذه التجربة عقب المصادقة على دستور عام 1962، والذي أسس لنظام برلماني يقوم على الأخذ بنظام المجلسين النيابيين (نظام الغرفتين): أولهما مجلس النواب، وكان يُشكل من (144) عضواً، يتم انتخابهم لمدة (أربع) سنوات. وثانيهما مجلس المستشارين، وكان يُشكل من (120) عضواً، يتم انتخابهم بالاقتراع العام غير المباشر، على أن يتم تجديد نصف أعضائه كل (ثلاث) سنوات.
إلا أن هذه التجربة لم تسمح بتطوير الحياة النيابية وتكريس تقاليد ديمقراطية سليمة في النظام السياسي آنذاك، ويرجع ذلك إلى سببين: أولهما أن هذه التجربة قد نشأت في ظل مناخ سياسي غير صحي؛ حيث ظلت المواقف والتناقضات السياسية السابقة عليها هي المهيمنة على العلاقات بين طرفي العملية السياسية في البلاد (أي المعارضة والأغلبية الحكومية). وثانيهما أن الحملات الانتخابية التي سبقت الانتخابات العامة قد تركزت على حشد جميع التنظيمات الموالية للحكومة في مواجهة المعارضة.
ومن ثم فقد استمرت التجربة البرلمانية الأولى في جو يسوده الصراع الشديد بين المعارضة والأغلبية الحكومية سواء داخل البرلمان أو خارجه، مما أدى إلى أوضاع صعبة على الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وقد سارت الأمور على هذا النحو حتى عام 1965م، حين اندلعت مظاهرات كبيرة في شتى المدن المغربية، والتي شارك فيها العمال والطلاب والفلاحون والنساء، مما دعا الملك إلى إعلان تعليق العمل بالدستور وحل البرلمان وتشكيل حكومة جديدة برئاسته.
ثالثاً: التجربة البرلمانية الثانية (1970-1971):
استمر تعليق العمل بالدستور وتعطيل البرلمان حتى عام 1970، حين أعلن الملك إلغاء حالة الطوارئ في البلاد وعودة الحياة النيابية وإصدار دستور جديد بديلاً عن دستور سنة 1962. وقد تبنى الدستور الجديد نظام المجلس النيابي الواحد (أي الغرفة الواحدة) ممثلاً في مجلس النواب، والذي كان يُشكل من (240) عضواً. بحيث يتم انتخاب (90) عضواً منهم بالاقتراع العام المباشر، بينما يتم انتخاب (150) عضواً بنظام الاقتراع غير المباشر: (90) عضواً منهم لتمثيل الجماعات المحلية (أي الجماعات الحضرية والقروية)، و(60) عضواً منهم لتمثيل الغرف المهنية والعمال.
وقد أُجريت انتخابات مجلس النواب يوم 21 أغسطس 1970م بالنسبة لنظام الاقتراع المباشر، ويوم 28 أغسطس 1970م بالنسبة لنظام الاقتراع غير المباشر (وكانت هيئة الناخبين تتألف من أعضاء المجالس الحضرية والقروية والمنتخبين في الغرف المهنية وممثلي العمال).
إلا أن مجلس النواب لم يستمر طويلاً بسبب محاولة الانقلاب الفاشلة التي وقعت في شهر يوليو عام 1971م، بغرض القضاء على نظام الحكم الملكي وإقامة نظام جمهوري. حيث أعقب محاولة الانقلاب الفاشلة وقف نشاط مجلس النواب وتعطيل العمل بالدستور وفتح حوار مع المعارضة بهدف الاتفاق على التغييرات التي يمكن إدخالها على نظام الحكم.
رابعاً: التجربة البرلمانية الثالثة (1977-1992):
نشأت هذه التجربة في ظل الدستور الذي تم إصداره في عام 1972م، والذي أخذ بنظام المجلس النيابي الواحد (أي الغرفة الواحدة) ممثلاً في مجلس النواب، والذي كان يتكون من (264) عضواً. بحيث يتم انتخاب ثلثي الأعضاء (176 عضواً) عن طريق نظام الاقتراع المباشر، بينما كان يتم انتخاب الثلث الباقي (88 عضواً) عن طريق الاقتراع غير المباشر، وذلك ولمدة (أربع) سنوات. وقد أُجريت أولى انتخابات مجلس النواب في يوم (3) يونيو من عام 1977م.
وقد كان من المقرر أن تنتهي الولاية التشريعية لمجلس النواب في عام 1981م، إلا أنه قد تم تمديدها لمدة (سنتين) بموجب الاستفتاء الذي أُجري في يوم (30) مايو 1980م. وهو الأمر الذي رفضته المعارضة الاتحادية، وأعلنت انسحاب نوابها من البرلمان بمجرد انتهاء ولايته الأصلية في عام 1981م، مما خلق ظروفاً غير طبيعية في المشهد السياسي المغربي. ويُشار إلى أن نواب المعارضة الاتحادية لم يشاركوا في أنشطة مجلس النواب إلا بعد تدخل من القصر الملكي.
أما ثاني انتخابات هذه التجربة فقد أُجريت في عام 1984م، بعد أن تم زيادة عدد أعضاء مجلس النواب إلى (306) عضواً. على أن يتم انتخاب ثلثي الأعضاء (204 عضواً) عن طريق الاقتراع المباشر، بينما يتم انتخاب الثلث الباقي (102 عضواً) عن طريق الاقتراع غير المباشر، بحيث يتم انتخاب (60 عضواً) يمثلون الجماعات المحلية و(42) يمثلون الغرف المهنية.
ويشار إلى أنه قد تم تمديد ولاية المجلس لمدة سنتين بموجب الاستفتاء الذي أُجري في شهر نوفمبر من عام 1989م، وذلك بهدف تمكين الأمم المتحدة من إجراء الاستفتاء الخاص بالصحراء الغربية.
خامساً: التجربة البرلمانية الخامسة (1993-1997):
نشأت هذه التجربة في ظل دستور 1992م، والذي ظل يأخذ بنظام المجلس النيابي الواحد (أي نظام الغرفة الواحدة) ممثلاً في مجلس النواب. والذي أصبح يُشكل من (333) عضواً. بحيث يتم انتخاب ثلثي عدد أعضاء المجلس (222 عضواً) بنظام الاقتراع المباشر، بينما يتم انتخاب الثلث الباقي (111 عضواً) بنظام الاقتراع غير المباشر، وذلك لمدة (ست) سنوات.
وقد أُجريت انتخابات مجلس النواب في يوم 25 يونيو 1993م بالنسبة للانتخابات المباشرة، وفي يوم 17 سبتمبر 1993م بالنسبة للانتخابات غير المباشرة.
ويشير المراقبون إلى أن هذه الانتخابات -على الرغم من احتجاجات المعارضة على نتائجها- كانت مشجعة، على اعتبار أنها فتحت آفاقاً جديدة داخل النظام السياسي، وبخاصة إقرار مبدأ تداول السلطة، كما أن التدخلات الملكية فيها كانت تصب في اتجاه إجراء انتخابات نزيهة.